آراء ومقالات

طه داؤود يكتب : الوجـه الآخـر لحـرب الســودان

الخرطوم أفريكا نيوز 24

الحرب التي بدأت في منتصف ابريل ٢٠٢٣م إثر تفاقم الخلاف بين قادة انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م ووصول الجميع الى طريق مسدود، كشفت عن ممارسات وسلوكيات مجتمعية لم تكن مألوفة، وبصورة أدق، لم تكن مرئية في أفراد المجتمع السوداني. فالرصاص المنهمر على الرؤوس بلا تمييز، لم يكتفِ بحصد الأرواح وإنما حصد معها قيم الأمانة والكرم والشهامة لدى فئات مقدّرة من المجتمع السوداني.

أفرزت حرب الخامس عشر من ابريل واقعاً أمنياً جديداً ولكنها أيضاً أفرزت واقعاً أخلاقياً جديداً، ليس بين الطرفين المتقاتلين الذين كان سقوطهما مروعاً في أخلاقيات الحرب منذ انطلاق الرصاصة الأولى، بل إن سقوطهما في خيانتهما للشعب والثورة والقَسَمْ حدث قبل ذلك، حدث ليلة انقلاب اكتوبر ٢٠٢١ ثم توالى السقوط.

الواقع الجديد الذي أفرزته الحرب هو انهيار منظومة القيم لدى فئات لا يستهان بها من المواطنين العاديين من النساء والرجال عندما انغمسوا في عمليات نهب وسرقة للمحال التجارية والمعارض والبنوك في وضح النهار مع توثيقهم بأنفسهم لهذا العار بتصويره بهـواتفهم المحمولـة وبثه بثاً مباشراً في أرجاء العالم.

من المؤكد أن قوات الدعم السريع هي من سنّت هذه السنّة السيئة عندما احتلت بيوت المواطنين العزّل تحت تهديد السلاح ثم سطت على البنوك ونهبت الأرصدة والأموال، ولكن ذلك لا يوفر تبريراً لهذا السقوط الاخلاقي والديني والجنائي لآلاف المواطنين الذين شاهدهم الجميع وهم يضعون المال الحرام في جيوبهم ويحملون إلى بيوتهم الثلاجة الحرام والشاشة الحرام والغسالة الحرام، ويطعمون أطفالهم وأنفسهم من هذا السُحت بالرغم من إدراكهم لفظاعة الجرم والمصير المرعب للفاعل (كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به ،، الحديث).

معظم أسواق العاصمة والمدن الأخرى تعرضت للسطو والحرق معاً منذ الأيام الأولى لاندلاع القتال، وكان مشهداً غير مألوف أن ترى أعداداً لا حصر لها من النساء والرجال وهم يقتحمون المصانع ومستودعات الدقيق وزيوت الطعام والسكر في منطقة بحري وامدرمان وفي مجمع جياد الصناعي في الخرطوم حيث السيارات والمعدات،، الخ لنهبها جهاراً نهاراً.

في منتصف مايو الماضي لخّصت شبكة “السودان نيوز” الوضع المزرى في العاصمة بالكلمات التالية “دخلت الحرب شهرها الثاني، تحولت أحياء سكنية لمدن أشباح، حرقٌ للأسواق، نهبٌ للمحال والمصارف، قتلٌ للمدنيين ودفنٌ في المنازل، نهب واغتصاب، نازحين ولاجئين”.

أيضاً نشرت بعض المصادر الصحفية إحصائية بأسماء أكثر من ٤٥ من المراكز التجارية والمصانع ومحال الغاز ومعارض السيارات والجامعات والبنوك التي تم نهبها خلال الشهر الأول من الحرب، وعلى ذكر البنوك، نشرت صحيفة “السوداني” الخبر التالي في ١٥/٥/٢٠٢٣

“قوات الدعم السريع تقتحم بنك أبو ظبي – شمال غرب عفراء مول، بالتاتشرات والعديد من الأفراد، ويحملون أجهزة لكسر خزن البنك، الذي يعد من أكبر البنوك التي تدفع رواتب الشركات الأجنبية وموظفي الأمم المتحدة بالدولار”.

هذه الاحداث كشفتنا أمام أنفسنا وأمام العالم وأزالت ورقة التوت التي كانت تمنعنا عن رؤية الوجه الآخر لذواتنا الفانية، الوجه الآخر المعتم الذي تتوارى خلفه هذه البشاعة وهذا السقوط المدوّي في امتحان القِيَم.

وكما تمت الإشارة في صدر هذا المقال، فإنه لا يمكن التعميم على الكل، فمن الظلم التعميم على الأمة السودانية كلها في هذه الفظائع. حيث لا يزال هناك الكثير من الخير والكثير من مراكز الإيواء والإطعام بنيرانها وأنوارها في هذه المدينة التي يلفها الظلام وكآبة المنظر والأشلاء، ولا يقطع صمتها الطويل إلا هدير الطائرات الحربية والصواريخ وزخات الرصاص.

لا يزال هناك أبطال داخل أحياء المدينة وأزقتها، فهناك، على سبيل المثال لا الحصر، (شيخ الأمين) الذي آثر البقاء لإطعام الجوعى وإغاثة الملهوفين داخل امدرمان المحاصرة. كان بمقدوره الفرار إلى مصر أو الإمارات كما فعل الكثيرون، ولكنه قرر البقاء في مسيده لتقديم الطعام والموعظـة والأمل للمحاصرين.

أيضاً فتحت قرى الجزيرة وسنار ونهر النيل مدارسها وداخلياتها لإيواء النازحين واقتسام الطعام على حبِّه مع ضيوفهم دون منٍ أو أذى.

فالتحية لهم ولكل الخيّرين مِن أصحاب العطاء الخفي البعيد عن فلاشات التصوير في نيالا المنكوبة وفي دار اندوكة حيث القبور الجماعية للمئات من شباب المدينة وقد دفنوا ودفنت معهم أحلامهم، وقد سبقهم على ذات الدرب والي الجنينة الشهيد خميس عبدالله أبكر المقتول غدراً على يدي الدعم السريع، والذي لم يسلم جثمانه من التشويه والعبث والتعليق على أغصان الأشجار بعد استشهاده، وكأني بأمه المكلومة وهي تصيح كما صاحت أسماء بنت أبي بكر عندما وقفت أمام جثمان إبنها عبدالله بن الزبير المصلوب لعدة أيام ” أما آن لهذا الفارس أن يترجّل؟”.

تنوعت فظاعات هذه الحرب اللعينة وامتدت نيرانها إلى معظم المدن والولايات.. تم هدم (جسر شمبات) على نهر النيل قبل أيـام، وهو عملٌ مدان على كافة المستويات وفيه إتلاف للبنية التحتية بهدف تحقيق نصر متوهّم على الطرف الآخر في حرب استنزافية لا مصلحة للوطن والمواطن فيها ولا في قيامها ولا في استمرارها.

قد تُهدم جسور أخرى، ولكن الأهم ألا يُهدم إرث الأمـة وأخلاق الأمة، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبـوا.

سينجلي غبار هذه المعركة التي أوقد نارها أصحاب الأهواء والأجندة، سوف تُطفأ نار هذه الحرب عاجلاً غير آجل رغم أنف دعـاة الفتنة، وحينها ستتمايز صفوف الأعداء عن صفوف الأصدقاء الأوفياء لكبرياء الوطن.

ستعود البسمة إلى وجوه حِسان أمدرمان وستعود امدرمان التي قال في حقها إبنها المتيّم عمر البنا:

يا حليل امدرمان يا حليل ظباها..

في جنح الليل فاح طيب شذاها..

عيني فاضــت والنــــوم أبــاهـــا..

هل في الإمكان إيصال هذه الأغنية الرائعة، وخصوصاً بصوت أولاد شمبات، إلى مسامع (الأشاوس) المتواجدين في الإرتكازات وفي مستشفيات أمدرمان وفي داخل الصوالين وغرف النوم المحتلّـة؟ علّها توقظ بعضاً من الضمائر؟.

قبل الختام، ولأجل الاستفادة من عِبر التاريخ ودروسه، ننقل من (عيون الاخبار) لابن قتيبة ما يلي (قال: قال رجل لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إن فلانا رجل صدق، قال: سافرت معه؟ قال لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!.)

samoibal@yahoo. com

 

التحية،،

15/11/2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى