عام

طه داؤود يكتب.. ثـورة ديسمبـر: هــــل من عـــودة؟

الخرطوم | افريكا نيوز 24

يستنشق شعبنا في هذه الأيام عبير ثورة اكتوبر العظيمة والتي انطلقت شرارتها يوم ٢١ اكتوبر ١٩٦٤م ونجحت في إسقاط الحكم العسكري للجنرال ابراهيم باشا عبود ونجحت في استعادة السلطة من الطغمة العسكرية، وكأني بالجموع تهتف حينها بلسان الحال ولاحقاً بلسان المقال مع المرحوم الشاعر محجوب شريف: أبداً لحكم الفرد لا .. تباً لحكم الفرد لا ..

لا شك في أن ثورة اكتوبر كانت النموذج وكانت النبراس لثورتي ابريل ١٩٨٥ وديسمبر ٢٠١٨، وكما فشل الانقلابيون سابقاً في وأد ثورتي أكتوبر وابريل، سيفشلون الآن أيضاً في طمس ثورة ديسمبر وقيم ثورة ديسمبر وشعارات ثورة ديسمبر في الحرية والعدالة والحكم الديمقراطي.

نعم، تعرّضت ثورة ديسمبر ٢٠١٨، حالها حال الثورات السابقة، تعرّضت للهجوم المضاد والعمل المضاد من أعداء الحكم المدنـي منذ اللحظة الاولى لانتصار الثورة.

لم يجرؤ أنصار النظام البائد من الإسلاميين ومن أعضاء المؤتمر الوطني بجانب طيف واسع من الانتهازيين من منسوبي الأحزاب السياسية ومن رجال الأعمال ومشايخ الطرق الصوفية ومن الصحفيين والفنانين الذين دعموا الإنقاذ خلال حكمها الطويل ونالوا عضوية برلمانها عديم الصلاحيات، فنفعوا وانتفعوا، لم يجرؤ أحدٌ منهم على الوقوف ضد تيار الثورة الجارف، وبدلاً من ذلك قرروا السباحة مع التيار وقرروا ركوب قطار الثورة قبل ان يُسحقوا بين القضبان.

فاندسوا وسط الجموع وهتفوا مع الثوار: يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور…رغم أن الكل يعلم ما فعل النظام البائد بدارفور وإنسان دارفور وإرث دارفور تحت ذريعة محاربة الحركات المسلّحة.

دارفور ظلّت في الذاكرة الشعبية السودانية رمزاً للتسامح والتعايش والتنوع العرقي، وموطناً لنار القرءان ومصدراً لكسوة الكعبة وأبيار علي، قبل أن تتحوّل بفعل سياسات النظام البائد إلى ساحة حرب قُتل فيها عشرات الألوف وأُجبر الملايين على النزوح، ليتحوّل الإقليم الغني إلى سجن كبير وإلى مجموعة من معسكرات النزوح حيث المسغبة والضياع وعبوات الطعام التي تلقيها طائرات الإغاثة.

انحنى السدنة لرياح ثورة ديسمبر العاتية حتى إذا هدأت الأمور، شرعوا في تنفيذ الخطط والمخططات المضادة لآمال وأحلام الشباب في وطن عاتي ووطن خيِّر ديمقراطي، وطن يصدح فيه الإنسان برأيه وبما يراه حقاً دون خوفٍ أو وجل أو فصلٍ من وظيفة أو منعٍ من سفر.

المخططات المضادة شملت جريمة فض اعتصام القيادة وإزهاق أرواح المئات من الشباب المسالم.

أيضاً، مواجهة المظاهرات السلمية بالرصاص الحي وقتل النشطاء نهاراً جهاراً، كان جزءاً من خطط ومخططات إجهاض الثورة الديسمبرية.

انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م وحل حكومة حمدوك على هزالها وعجزها وقلة حيلتها، كان جزءاً من خطط الفلول لوأد الثورة.

ثم اندلع القتال في ابريل ٢٠٢٣ بين منفذي انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م، فاختلط الحابل بالنابل وأُزهِقت أرواح الآلاف من المدنيين الأبرياء، فاضطر الملايين من سكان الخرطوم إلى الفرار من المدينة ومن الدانات والصواريخ ورصاص المدافع الرشاشة.

يفيد أحدث تقرير لمنظمة “أكليد” أن النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع حصد نحو 7500 قتيل، ولكن المنظمة ترجح، كما غيرها من المصادر الطبية والميدانية، أن تكون الحصيلة الفعلية أعلى، خصوصاً في ظل انقطاع الاتصالات في مناطق عدة، ورفض طرفي القتال إعلان خسائرهما. فيما اضطر نحو خمسة ملايين شخص من إجمالي عدد سكان البلاد المقدّر بنحو 48 مليون نسمة، إلى ترك منازلهم والنزوح داخل السودان أو العبور إلى دول الجوار خصوصا مصر وتشاد، وفق الأمم المتحدة.

انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م والذي انتهى به المطاف إلى هذه الحرب بين الفرقاء، كان هدفه الأساسي الهروب من استحقاقات ثورة ديسمبر، حيث أنّ الجميع كان على علم بأن استحقاقات ثورة ديسمبر ستتضمن، ضمن طيف واسع من الحقائق والحقوق، محاسبة نظام المخلوع على كل جرائم القتل التي حدثت في دارفور وفي جبال النوبة وفي المعتقلات السرية وفي بيوت الاشباح بالإضافة إلى قتلى المظاهرات السلمية طيلة سنوات حكم الإنقاذ.

استحقاقات ثورة ديسمبر ستشمل التحقيق والمحاسبة والمصادرة لكل الأموال المنهوبة والأراضي والعقارات التي استولى عليها المتنفذون في العهد البائد، وسيتم كل ذلك بالقانون نصاً وروحاً.

أمام هذه الحقائق الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وعلى وقع الحرب الحاليـة التي أهلكت الحرث والنسل: هل من مخرج من الأزمة الراهنة؟
هل من مسار جديد للخروج من الورطة الحالية؟
هل من سبيل لإنقاذ الارواح ووقف التهجير والتشريد؟
هل من عقلاء لوقف هذه الحرب التي ليس فيها غالب ولا مغلوب؟

نعم، هناك مخرج واحد فقط، وهو إعادة الأمانة إلى أهلها.. فمهما طال أمد هذه الحرب، وحتى لو مالت الكفة لأحد الطرفين، فإنه لن يصح إلا الصحيح، ولن يهنأ الانقلابيون بالغنيمة أبداً.. لا مفر من إعادة الحكم للمدنيين.

على قادة الانقلاب الجلوس الى طاولة المفاوضات لبحث ومناقشة جدول أعمال يتضمن بنداً واحداً وهو: تسليم السلطة للمدنيين.
والمدنيون الذين سيتسلَّمون السلطة هم الثوار، وفي مقدمتهم تجمّع المهنيين والنقابات والاتحادات العمالية ولجان المقاومة، فهي القوى الحقيقية التي قادت العمل الثوري في مراحله المختلفة، والتي تحمّلت أعباء المواجهة ودفعت ثمن الانتصار الكبير الذي تحقق في ابريل ٢٠١٩م.

لا مجال لتكرار تجربة قوى الحرية والتغيير (قحت). قوى الحرية والتغيير كانت، خلال فترة حكمها برئاسة حمدوك، مثالاً صارخاً للاصطفاف الحزبي والصراع على المناصب بدلاً مِن أن تكون مثالاً للتضحية ونكران الذات والإنصات لأصحاب القضية. صحيح كانت التحديات كبيرة وكانت المؤامرات حاضرة، إلا أنّ الاستعداد لخوض المعركة لم يكن مكتملاً لدى حمدوك (وشلّة المزرعة).

حكومة حمدوك كانت منفصلة ذهنياً وبدنياً عن نبض الشارع. آثر حمدوك ووزراء حمدوك الاختباء داخل المكاتب والالتصاق بعساكر المجلس السيادي في الوقت الذي كانت المظاهرات السلمية تُواجَه بالرصاص ويسقط الشهداء والجرحى تحت أسوار مباني مجلس الوزراء والقصر الجمهوري!

تنازل الدكتور حمدوك عن صلاحيات عديدة منصوص عليها في الوثيقة الدستورية، ومِن أبرزها حقه كرئيس للحكومة في ادارة ملف السلام والتفاوض مع حركات الكفاح المسلّح، ولكنه لم يفعل، فتولّى الأمر المجلس العسكري بكل انتهازية فأرسل وفوده الى جوبا، فرأينا الفريق شمس الدين الكباشي والفريق محمد حمدان دقلو ووزير الدفاع الذي وافته المنية في جوبا، شاهدهم الجميع أمام كاميرات التصوير في جوبا وقد استبدلوا بزاتهم العسكرية ببدلات مدنية وربطات عنق أنيقة لتخدير المدنيين وطمأنتهم.

أبرم المجلس العسكري صفقاته مع تلك الحركات لتنتقل بجيوشها وعتادها العسكري إلى الخرطوم لتصبح سنداً للمجلس العسكري في معركته اللاحقة ضد الثورة، وهي المعركة التي كان يشعر بإرهاصاتها الجميع باستثناء حكومة حمدوك.

لا بدّ للبنادق أن تصمت، ولا بدّ لطرفي الصراع مِن الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتسليم السلطة للقوى المدنية الحقيقية المبرأة من الانتماءات الحزبية.

تحالف الاتحادات المهنية والنقابات العمالية ولجان المقاومة هي التي ستتولى إدارة المرحلة الانتقالية القادمة وستقوم بتكوين حكومتها الرشيقة من التكنوقراط لإدارة دولاب الـدولة وفقاً للصلاحيات والمهام المدرجة في الوثيقة الدستورية.

وسيكون هذا التحالف هـو المسئول عن تهيئة البلاد للانتخابات بنهاية الفترة الانتقالية ليقول الشعب حينها كلمته ويختار من يحكمه بإرادته ويعزله أيضا بإرادته (فأما الزبد فيذهب جفـاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض – الآيـة).

التحية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى